في أولى مكاشفاته مع ملحق الدين والحياة، قال المفكر السعودي إبراهيم البليهي، بأن نقد الذات الكليلة التي يقوم بها، هو مفتاح تحريكها وتغييرها نحو الأفضل، ورأى أن تمجيد النفس المتخلفة البليدة الراسفة في القيود هو ترسيخ للتخلف وتأكيد للأصفاد، وقال البليهي بأن التخلف واقع مشين ينبغي أن نسخط عليه ونتخلص من أسبابه، وأكد البليهي في مكاشفاته، أن الحضارة الغربية، حررت الإنسان من قيوده وأصفاده، وأن حضارتنا الإسلامية حضارة دينية اهتمت بمسائل الحلال والحرام والكفر والإيمان فقط، وإلى تفاصيل المكاشفات:
- سأبدأ من القضية المفصلية التي تميز فكر إبراهيم البليهي والتي يواجهه بها معارضوه دوما، وهي الانبهار الكامل بالغرب في مقابل تهوين كامل للعقل العربي.. لأن هذا أستاذ إبراهيم أظهر ما يميز كتاباتك. وثمة جلد ذات حاد يميزه الكثيرون، ما هو الباعث لذلك؟
إن موقفي من حضارة الغرب، هو موقف يعتمد على الحقائق الجياشة، وعلى الإنجازات العظيمة، وعلى الواقع المفعم بكل ما هو عجيب ورائع ومدهش، إنه ليس انبـهارا أعمى، فهو عكس موقف المنكرين الذين يتجاهلون الأضواء الحضارية الباهرة فأدر طرفك فيما حولك من وسائل الحياة، وسوف تبصر أن كل ما هو جميل في حياتنا وحياة غيرنا، قد أنتجته الحضارة الغربية حتى القلم الذي بيدك وجهاز التسجيل الذي أمامك والنور الذي يغمرك والصحيفة التي تعمل فيها وغير ذلك، مما لا حصر له من تسهيلات الحياة ووسائلها التي هي أشبه بالمعجزات والخوارق بالنسبة للحضارات القديمة، فلولا منجزات الغرب، لكانت حياتنا حياة جدباء قاحلة، إن ما فعلته هو أنني نظرت بموضوعية وقيمت بعدل وعبرت بصدق عما أراه، فالذي لا يعجبه الجمال الرائع هو إنسان عديم الحس والذوق والبصيرة، فحضارة الغرب قد بلغت القمة في العلوم والتقنيات، وأنجزت من المعارف والمهارات والاختراقات والريادة ما لم تعرفه أية حضارة سابقة، كما أن إنجازاتـها قد غطت كل مجالات الحياة في التنظيم والسياسة والأخلاق والاقتصاد واحترام الإنسان، فمن واجبنا أن نعترف لها بـهذا التميـز المدهش، إنـها حضارة تستحق الإعجاب الشديد بل إن الإعجاب يبقى مقصرا في حقها مهما بلغ وليس التخلف الفظيع الذي تعيشه بعض الشعوب سوى النتيجة الحتمية لرفض هذا الفيض الزاخر من الأفكار والرؤى والاحتماء بالإنكار والمكابرة..
- لتعجب ما شاء لك أستاذنا بهذه الحضارة، ولكن ليس على حساب الغير، خصوصا حضارتنا نحن.
إن إعجابي بالغرب ليس على حساب الغير، وإنما هو دعوة لهذا الغير بأن يتعرف على أوهامه وأن يتجاوز هوانه وأن ينعتق من تخلفه وأن يعترف بقصوره وأن يجتهد ليتجاوز هذا القصور وأن يربأ بنفسه عن جحد الحقائق والتعامي عن الزخم الهائل من روائع الإنجاز، وأن ينصف الأمم التي حققت الازدهار لنفسها، فلم تتكتم ولم تحتكر، وإنما أشركت العالم بنتائج هذا التقدم فصار العالم كله ينعم بمنجزاتـها، بل وقدمت له من المعارف ومهارات الأداء، ما أتاح له أن يزاحمها في الإنتاج ويقاسمها الأسواق، إن نقد الذات الكليلة هو مفتاح تحريكها وتغييرها نحو الأفضل، أما تمجيد النفس المتخلفة البليدة الراسفة في القيود، فهو ترسيخ للتخلف وتأكيد للأصفاد وطمس لقابليات التألق، إن التخلف واقع مشين، فينبغي أن نسخط عليه ونتخلص من أسبابه..
أسباب الإعجاب
- ليكن، ونحن معك في هذه المطالبة، ولكن أستاذ إبراهيم هل يمكن أن تلخص لنا سبب إعجابك بالحضارة الغربية في نقاط، كي نستطيع وضع قاعدة للتحاور؟
ليس سببا واحدا، وإنما ألف سبب، كلها تدفعني إلى الإعجاب الشديد بالغرب وتأكيد امتيازه المطلق في كل شؤون الدنيا، إن الحضارة الغربية هي الحضارة الوحيدة التي حررت الإنسان من أوهامه وأصفاده واعترفت بفرديته ووفرت له الإمكانات والفرص لبناء ذاته وتحقيق طموحه وأنسنت السلطة ووضعت من الآليات ما يكفل المساواة النسبية ويحقق العدل النسبي ويمنع الجور ويستسخف العدوان، وهذا لا يعني أنـها حضارة من دون نقائص، بل هي مليئة بالنقائص، لكنها أعظم ما توصل إليه الإنسان في تجاربه الكثيرة خلال التاريخ الطويل، فقد ظلت البشرية مكبلة بالاستبداد والعجز والفقر والظلم والمرض والتعاسة، إنـها حضارة استثنائية وليست امتدادا للحضارات القديمة باستثناء الحضارة اليونانية، التي هي منبع الحضارة المعاصرة، وقد أنجزت كتابا عن هذه الطفرة الحضارية العظيمة الاستثنائية بعنوان: (التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية)، إن حضارة الغرب نتاج ذاتـها وليست مدينة لأية حضارة سابقة، باستثناء الحضارة اليونانية التي هي امتداد لها وإحياء لفتوحاتـها في مجالات الفكر والعلم والأدب والسياسة والاجتماع واحترام الإنسان وتمجيد العقل، والاعتراف مع ذلك بقصوره وأوهامه، والتأكيد على حاجته الدائمة إلى النقد والمراجعة والتصحيح..
- حديثك هذا تنسف به كل جهود وإبداع الحضارات السابقة كالحضارة الإسلامية، بأن الغرب لم يفد منها ؟
نعم ولا لأية حضارة سابقة من غير استثناء.. إن الحضارة الغربية تأسست في اليونان في القرن السادس والخامس قبل الميلاد، ثم توقفت في العصور الوسطى، ثم استأنفت مسيرة الصعود في العصر الحديث وعمت خيراتـها كل الأمم، فهي حضارة استثنائية بكل ما يعنيه الاستثناء من امتياز وتفرد وجدة، فليست مدينة لأية حضارة، وإنما هي نتاج ذاتـها، إنـها ذات مكونات وخصائص تختلف بـها عن كل الحضارات السابقة واللاحقة، إنـها نتاج الفكر الفلسفي الذي أبدعه اليونانيون، فقد اعتمد الأوروبيون على هذا الفكر، خصوصا الجانب النقدي منه، فحفز قابلياتـهم وطور قدراتـهم ومكنهم من إنتاج المعرفة الموضوعية المفتوحة دوما للمراجعة والتصحيح والارتقاء، إن الثقافة اليونانية قد أنجزت ابتكار الفلسفة بما تعنيه من تأمل عميق وانفتاح مطلق ونقد لاذع ومراجعة فاحصة واعتراف بقابليات الإنسان للتلبس بالأوهام ككائن مقلد وذاتي التفكير، ما لم يخرجه الفكر النقدي من هذه الذاتية التلقائية..
الغرب يعترف بالفضل
- بعض المفكرين الغربيين كتبوا نصا أن الحضارة الغربية امتداد لحضارات سبقتهم.. وأنت العربي المسلم تنفي ذلك؟
حين نراجع أسماء الفلاسفة والعلماء المسلمين، الذي نوه الغربيون بفضلهم على الغرب من أمثال ابن رشد وابن الهيثم وابن سيناء والفارابي والرازي والخوارزمي وأمثالهم، نجد أنـهم جميعا قد تتلمذوا على الثقافة اليونانية، وكانوا أفرادا خارج النسق السائد، وكانوا وما زالوا غير معترف بـهم في ثقافتنا، بل لقد أحرقنا كتبهم، وضيقنا عليهم، وحذرنا منهم، ومازلنا ننظر إليهم بالريبة والاشمئزاز، فكيف نفخر بأفراد نحن استبعدناهم وأنكرنا فكرهم وحاولنا استئصالهم؟!!!
أما في مسألة التطور الحضاري فيوجد اتجاهان: اتجاه يرى أن الحضارة نتاج تراكميّ، وهذا اتجاه تنقضه حقائق التاريخ، أما الاتجاه الآخر فيرى أن الكم لا يتحول إلى كيف، إلا بطفرة استثنائية، وهذا الاتجاه هو الاتجاه الصحيح المقنع الذي التـزم به فالكم لا يمكن أن يتحول تلقائيا إلى كيف أبدا، وقد دلت التجارب الإنسانية بأن التقدم لا يتحقق إلا بمخاضات عسيرة تعيد تركيب البنية الثقافية بشكل يسمح لها بالانفتاح والنمو والتغير وإعادة التكوين والازدهار...
إن الحضارة الوحيدة التي تملك مقومات الصعود الدائم، هي الحضارة الغربية بأساسها اليوناني وتكوينها المعاصر المدهش، لأنـها تملك آليات النقد والحفز والمراجعة والاعتراف بعدم الاكتمال، إنـها تبدأ بتأكيد أصالة الجهل وأولوية الوهم، ثم تعمل جاهدة للتغلب النسبي على الجهل المركب والوهم المتأصل في الثقافات البشرية، إنـها تؤمن باستحالة امتلاك الحقيقة المطلقة، كما تؤمن بأن الكمال البشري محال، فعلى الإنسان أن يسعى جاهدا إليه مع الاعتراف باستحالة بلوغه، لذلك فإنـها الحضارة الوحيدة التي هي في حالة نمو دائم ومراجعات مستمرة وتصحيحات لا تتوقف وكشوف متصلة، أما الحضارات القديمة، فكانت تشبه حياة الفرد: حمل ثم ولادة ثم نمو ثم استقرار ثم شيخوخه وتدهور وموت، ولم تكن تحصل في الحضارات القديمة إضافات نوعية تغير مسيرة الحضارة، وإنما كل حضارة تبدأ من حيث بدأت التي قبلها وتنتهي بنفس النهاية..
- ولكن على أنقاضها وتتم ما بدأته؟
كل حضارة كانت تـهدم التي قبلها ثم تعيد بناء ما هدمته ثم لا تضيف إضافات نوعية تتحقق بـها وثبة حضارية، وإنما تـهجم القبائل غير المتحضرة على المجتمعات المستقرة المتحضرة نسبيا فتستولي على السلطة وتـهدم وتدمر وتعيد الأوطان إلى نقطة الصفر، ثم تبدأ في النشوء ثم ترتقي إلى مستوى الاستقرار فتتوفر أسباب الرخاء والترف لأهل السلطة، ثم تبدأ عملية الانحدار وتنتهي بالسقوط من غير أن تضيف إضافات نوعية تتغير بـها مسيرة الحضارة، وهكذا كانت البشرية ترتقي نسبيا ثم تسقط، ويتكرر المشهد على نفس الوتيرة حتى جاءت الحضارة المعاصرة ذات التكوين المغاير، فحققت النمو المستمر والصعود الدائم، حتى بات المحصول المعرفي والتقني للإنسانية يتضاعف كل بضع سنوات، فيتحقق في سنة واحدة ما لم يكن يتحقق في قرون!!! فنحن إذن أمام حضارة جديدة استثنائية تختلف عن أي حضارة سابقة، أما تغييب هذه الحقيقة الصارخة عن أذهان أجيالنا، فإنه بالغ الضرر، لأنه أبقانا متخلفين كما كنا وحرمنا من إمكانات الازدهار الجديدة التي استخدمها الآخرون فازدهروا...